وجاء وقت أن أحكي حكاية الزمالك ..
حكاية التاريخ والأجانب والسياسة والكرة والملك والثورة والمشير والانفتاح
والاحتراف .. حدوتة مصرية من تلك الحواديت التي لا تزال تحتفظ ببقاياها
شوارعنا وبيوتنا ..حدوتة مصرية لم تحكها لي جدتي التي ماتت قبل أن أراها
ولا شهرزاد التي كنت أحب أن أراها حكاية أو حدوتة بدأت في أوائل القرن
الماضي وقتها تحولت القاهرة إلي المحطة الأخيرة يتوقف عندها سفر الاف
الغرباء جاءوا من بلادهم البعيدة يفتشون عن حياة جديدة يبحثون عن فرصة
وثروة وحياة أسهل وأجمل من تلك التي عاشوها في بلادهم قبل الرحيل واحد من
هؤلاء الغرباء .. كان محاميا جاء من بلجيكا .. وبسرعة .. وثقة .. استطاع
هذا المحامي المجهول أن ينجح في تحقيق ما كان يحلم به .. وما جاء من أجله
إلي القاهرة .. أيضا استطاع هذا المحامي الجلوس علي مقعد رئاسة إحدي
المحاكم المختلطة في مصر .. هذه المحاكم كانت أحد الوجوه القبيحة
للاستعمار الإنجليزي لمصر .. فلم يكن الإنجليز .. ولا الأجانب .. يقبلون
المثول أمام القضاء المصري .. فتأسست تلك المحاكم المختلطة التي كانت
مهمتها الفصل في كل القضايا التي كان طرفاها من الأجانب .. أو أحد طرفيها
علي الأقل .. وغني عن الذكر أنه ما من مرة أنصفت فيها تلك المحاكم رجلا
مصريا أو إمرأة مصرية
وبالرغم من نجاح المحامي البلجيكي مرزباخ في رئاسة إحدي تلك المحاكم ..
فإنه في النهاية لم ينس أنه قادم من بلجيكا وليس من إنجلترا .. وإذا كان
الإنجليز يطمعون في الكعكة المصرية كلها .. فإنه من الضروري ألا يستسلم
الأوروبيون في مصر لهذا الجشع الإنجليزي .. وعليهم اقتطاع نصيبهم من مصر
قبل أن يلتهم الإنجليز الكعكة كلها
وهكذا .. بدأ مرزباخ يفكر في وسيلة تجمع أعضاء الجالية البلجيكية
ليتعارفوا ويتبادلوا الحوار والسند في وجه كل من المصريين .. والإنجليز
أيضا .. ولم تكن هناك وسيلة أفضل من ناد اجتماعي ورياضي يلتقي فيه الجميع
.. البلجيك .. وباقي الأوروبيين الذين اكتظت بهم القاهرة في ذلك الوقت ..
ونحن لا نعرف علي وجه الدقة .. هل كانت مجرد مصادفة أم قرار بتحدي
الإنجليز والمصريين .. أن يقوم مرزباخ بتأسيس ناديه الجديد علي ضفاف النيل
في مواجهة نادي الجزيرة الذي كان معقل الإنجليز .. وقريبا من النادي الأهلي الذي كان معقل المصريين
كان النادي الجديد أيضا .. قريبا من ثكنات قصر النيل .. وكانت تلك الثكنات
أكبر معسكر للجيش الإنجليزي ليس في القاهرة أو مصر .. وإنما في كل منطقة
الشرق الأوسط وأفريقيا .. وكانت تلك الثكنات تقع علي ضفة نيل القاهرة مكان
فندق هيلتون اليوم .. وأطلق مرزباخ علي النادي الجديد اسم قصر النيل
وبدأ النادي يفتح أبوابه للأوروبيين .. وكان عبارة عن صالون اجتماعي تلتقي
فيه عائلات الأجانب تتبادل الحوار والثرثرة .. وبضعة ملاعب للتنس .. وكان
من الواضح أن النادي الجديد بمثل تلك الصورة المتواضعة لم يكن ليرضي
كبرياء البلجيكي مرزباخ .. ومن الواضح أيضا أنه كان علي درجة كبيرة من
العناد .. فلم ييأس ولم يستسلم .. وظل يفتش عن أرض جديدة يقيم فوقها ناديا
أكبر من نادي قصر النيل الحالي
واستطاع مرزباخ أن يعثر علي تلك الأرض الجديدة بالفعل .. لم تكن الأرض
الجديدة هذه المرة علي شاطئ النيل .. لكن في قلب القاهرة .. بالتحديد في
شارع فؤاد .. أو شارع 26 يوليو كما نسميه الآن .. في المكان الذي تشغله
حاليا دار القضاء العالي
وانتقل مرزباخ بناديه الصغير إلي الأرض الجديدة .. ولم يعد من المناسب
الاحتفاظ بالاسم القديم .. قصر النيل .. فلم يعد النادي يسكن ضفة النيل ..
وهكذا قرر مرزباخ تغيير الاسم ليصبح نادي
المختلط .. وتختلف الروايات التاريخية حول دوافع وأسباب اختيار هذا الاسم
.. قال البعض أن الاسم الجديد كان يعني أن أعضاء النادي خليط من جاليات
أجنبية عديدة .. وقال آخرون أن مرزباخ اقتبس الاسم الجديد للنادي من اسم
المحاكم المختلطة التي كان مرزباخ يرأس إحداها
وأيا كان التفسير .. فقد تأسس في مصر ناد جديد لم ينضم رسميا بعد إلي
حظيرة كرة القدم .. ولم يكن البلجيكي مرزباخ غائبا عن كل مايحدث حوله من
تغييرات وتحولات كروية ورياضية .. وأدرك الرجل بسرعة أن كرة القدم ستصبح
رياضة مصر الأولي .. اللعبة الوحيدة التي ستشارك المصريين همومهم وحياتهم
وأحلامهم وبيوتهم وقلوبهم ..
لهذا .. لم يكن مرزباخ يريد أن يبقي نادي
المختلط بعيدا عن كرة القدم .. فقرر إدخالها وضمها إلي قائمة الأنشطة
الرياضية لنادي المختلط .. خاصة أن مساحة أرض النادي الجديدة في شارع فؤاد
كانت تسمح بإنشاء ملعب لكرة القدم .. وفي عام 1913 .. تأسس أول فريق كروي
بنادي المختلط .. أو نادي الزمالك
وبدأ هذا الفريق الجديد يشارك في المسابقات التي كانت تقام في ذلك الوقت
.. بدأ أيضا يدخل حلبة المنافسة والسباق مع الأندية الأخري .. الأهلي
والسكة الحديد والفرق الإنجليزية وفرق المدارس - أي الكليات الجامعية -
والمعاهد العليا
لكن .. كان فريق المختلط متواضع المستوي .. وكان مقدرا له أن يبقي طويلا
من فرق الدرجة الثانية أو الثالثة .. لولا قرار مرزباخ رئيس النادي بفتح
الباب أمام المواهب الكروية المصرية لتنضم لفريق الكرة بشرط ألا يكون
للمصريين الحق في الحصول علي عضوية النادي العاملة التي كانت لا تزال حتي
ذلك الوقت مقصورة علي الأجانب
واحد من أصحاب تلك المواهب كان اسمه حسين حجازي .. سيصبح فيما بعد أول أستاذ في مدرسة الزمالك
الكروية وواحدا من أعظم لاعبي مصر في كل العصور .. وقد لا يعلم الكثيرون
.. أن قرار مرزباخ بفتح باب النادي أمام حسين حجازي والآخرين من أصحاب
المواهب الكروية .. كان أول فتيل يتم اشعاله في القنبلة الرياضية المصرية
.. أو الصراع الساخن العنيف المثير الدائم بين الأهلي والزمالك !
ونحن اليوم .. للأسف .. نتعامل مع قضية صراع الأهلي والزمالك .. وعلي أنها
من مسلمات حياتنا الكروية والرياضية .. لم نحاول يوما ادراك أو فهم مبررات
ودوافع مثل هذا الصراع .. رغم أنه ليس من الصعب .. أو من المستحيل .. أن
نعرف حكاية هذا الصراع قديمة جدا .. بدأت منذ تسعة وثمانين عاما ..
بالتحديد في عام 1914 أي بعد عام واحد من تأسيس فريق الكرة في نادي المختلط .. أو نادي الزمالك
.. ففي عام 1914 .. عاد حسين حجازي إلي مصر .. وكان قد سافر إلي إنجلترا
لاكمال دراسته في جامعة كامبريدج بإنجلترا .. لكنه قبل أن يسافر .. كان قد
تعلم كيف يحب الكرة وكيف يلعبها وكيف يتألق معها ولها ليصبح أعظم لاعبي
مدرسة السعيدية الثانوية وكل مدارس مصر
عاد حسين حجازي إلي مصر ولم يقبل الإنضمام ـ كلاعب كرة ـ إلي أي ناد في
مصر .. وإنما أسس فريقا كرويا خاصا به .. وأطلق عليه فريق حجازي إليفين ..
أي حجازي 11 .. إشارة إلي أنه الفريق الكروي الذي يتكون من أحد عشر لاعبا
يقودهم اللاعب الموهوب حسين حجازي
في المقابل .. كان هناك رجل إنجليزي يعيش في مصر مهووسا ومفتونا ومشغولا
طول الوقت بكرة القدم .. الرجل اسمه ستانلي .. ونجح ستانلي في أن يجمع كل
لاعبي الأندية الإنجليزية الذين يقضون فترة تجنيدهم في صفوف الجيش
الإنجليزي في مصر .. وأسس بهم فريقا كرويا أطلق عليه اسم .. ستانلي تيم ..
أو فريق ستانلي .. .. وكان لابد أن يلتقي الفريقان يوما ما .. والتقي
الفريقان بالفعل .. فريق حجازي إليفين .. وفريق ستانلي تيم .. وكان اللقاء
عبارة عن مباراة ساخنة لكرة القدم سينال الفريق الذي سيفوز بها عشرة
جنيهات كاملة
فاز فريق حجازي إليفين بالمباراة .. وبالجنيهات العشرة .. ولكن الكبرياء
والصلف الإنجليزي لم يقبلا تلك الهزيمة الموجعة .. فعرض ستانلي علي حجازي
أن يلتقي الفريقان في مباراة أخري .. فرفض حجازي وبقي ستانلي يغري حجازي
بزيادة قيمة الرهان حتي بلغت مائة وثمانين جنيها .. حينئذ .. لم يعد بوسع
حجازي أن يرفض .. .. ولم يكن بوسعه أيضا أن يخسر ليفوز الإنجليز .. ومرة
أخري .. يفوز حجازي إليفين علي ستانلي تيم
ولم تكن قيمة الرهان وحدها هي الفارق الوحيد بين مباراة الفريقين الأولي
.. ومباراتهما الثانية .. وإنما جرت المباراة الأولي في هدوء .. بينما
كانت المباراة الثانية صاخبة .. تابعها في شغف كل المسئولين عن أندية مصر
الكروية .. كانوا يريدون رؤية هؤلاء الشياطين المصريين الصغار الذين
استطاعوا أن يقهروا الإنجليز .. وكذلك الإنجليز .. كانوا .. أيضا ..
يريدون امتلاك هؤلاء الصغار وضمهم للأندية التي يمثلونها .. وكانت أول حرب
في تاريخ الكرة المصرية لضم لاعبين إلي صفوفها
لكن .. أكبر لكن في تاريخ الكرة
المصرية .. تقاعست الأندية ـ باستثناء الأهلي والزمالك ـ عن الاستمرار في
ميدان تلك الحرب .. ففاز الأهلي باللاعب الأعظم حسين حجازي .. وفاز
المختلط .. أو الزمالك .. بباقي فريق حجازي إليفين